يولد الإنسان مزوداً بالعقل والإدراك الذي ميزه الله به عن سائر المخلوقات، وهو ذلك التميز الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" (البقرة:31) فليس المقصود -فيما أرى هنا- تعليم آدم منطوق أسماء الأشياء، فذلك مما لا يدل عليه تكوين الإنسان وقدرته كما فطره الله، ولأن معنى ذلك معرفة أسماء الأشياء التي لم يرها أبونا آدم في حالته الحضارية البدائية[1] إلى أن تقوم الساعة، وبكل اللغات، ووقوع ذلك على تلك الهيئة هو أمر ليس له أثر في تاريخ الإنسان ولا يوجد عليه دليل محسوس فيما يعرف من طبائع البشر وقدراتهم. فإذا علمنا أيضاً أن منطوق الاسم لا معنى ولا قيمة له إذا لم يكن هناك وعي بمعناه وبدلالته، وهو العلم بطبيعة المسمى، وبكنهه، وبوظيفته، بشكل من الأشكال، فإن المعنى الممكن هنا لابد من أن ينصرف إلى قدرة الإنسان على الإدراك، وقدرته على تجريد المشتركات التي تضم المفردات، وردها إلى أصول وأجناس -وهو من الواضح في أصل خلق آدم حين سُوِّي ونفخت فيه الروح- فالكراسي أو المباني أو الحيوانات -على سبيل المثال- تتعدد أشكالاً وألواناً ومظاهر وتراكيب، ويختلف كل نوع واحد منها عن الآخر، إلا أنها في مجموعها ترجع إلى تشابهات وأبعاد تضم مفرداتها بعضها إلى بعض، وتجعلها في أجناس وأنواع، فهناك كرسي المكتب، وكرسي الاستقبال، وكرسي السيارة، وهناك الكرسي الكبير، والكرسي الصغير، وهناك الكرسي الخشبي، والكرسي المعدني، والكرسي البلاستيكي، وهناك أشكال وألوان وأحجام من الكراسي، لكن الذي يجمعها تحت هذا المسمى جميعاً أنها أداة للجلوس والراحة. وقدرة الإنسان على الإدراك والتمييز والتجريد هي أصل قدرة العلم والمعرفة عند الإنسان، وقدرته على توليد الأفكار والمبتكرات، وتوليد رموز أسمائها في اللغات الإنسانية المختلفة، وفي رأيي؛ فإن قدرة الإنسان على الإدراك، وقدرته اللغوية التي مكنته من إيجاد الرموز وإطلاقها على المسميات، وهي الأسماء، وقدرته على استخدامها، إنما هو أصل قدرة الإنسان الحضارية والعمرانية، ومن دون قدرة الإنسان على صياغة الرموز واستخدامها لم يكن باستطاعته الكتابة، ولا تطوير العلوم والمعارف، ولا الاستخلاف في الأرض، وإن ذلك هو المقصود بـ (تعليم الأسماء) الذي أشار إليه القرآن الكريم، وميز الله به الإنسان ...