إن الإسلام عقيدة استعلاء، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة من غير كبر، وروح الثقة في غير اغتدار، وشعور الاطمئنان في غير تواكل وإنها تشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة على كواهلهم، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة، وهدايتها إلى الدين القيّم والطريق السوي، وإخراجها من الظلمات إلى النور بما أتاهم الله من نور الهدى والفرقان. وهذا الكتاب الذي بين يدي القارئ يثير في نفس قارئه هذه المعاني كلها، وينفث في روعه تلك الخصائص جميعها، ولكنه لا يعتمد في هذا على مجرد الاستشارة الوجدانية أو العصبية الدينية، بل يتخذ الحقائق الموضوعية أدانه، فيعرضها على النظر والحس والعقل والوجدان جميعاً، ويعرض الوقائع التاريخية والملابسات الحاضرة عرضاً عادلاً مستنيراً، ويتحاكم في القضية التي يعرضها كاملة إلى الحق والواقع والمنطق والضمير، فتبدو كلها متساندة في صفه وفي صف قضيته، بلا تمحل ولا اعتساف في مقدمة أو نتيجة وتلك مزية من مزايا الكتاب. انه يبدأ فيرسم صورة صغيرة سريعة، ولكنها واضحة، لهذا العالم قبل أن تشرق عليه أنوار الإسلام. يرسم الصورة لهذا العالم شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً وكيف تسيطر عليه روح الجاهلية فيسوده الظلم والعبودية وتفشاه غاشية من الكفر والضلال والظلام، فإذا فرغ المؤلف من رسم صورة العالم بجاهلية هذه، بدأ يعرض دور الإسلام في حياة البشرية، ودوره في تخليص المجتمع الإنساني من الظلم والطغيان. ومن التفكك والانهيار، ومن فوارق الطبقات واستبداد الحكام واستدلال الكهان، ودوره في بناء العالم على أسس من الفقه والنظافة والإيجابية والبناء، والعدالة والكرامة، ومن العمل الدائب لتنمية الحياة وترقية الحياة، وإعطاء كل ذي حق حقه في الحياة. كل أولئك في إبان الفترة التي كانت القيادة فيها للإسلام في أي مكان، والتي كان الإسلام فيها يعمل. ثم تجيء الفترة التي فقد الإسلام فيها الزمام، بسبب انحطاط المسلمين، وتخليهم عن القيادة التي يفرضها عليهم هذا الدين، والوصاية التي يكلفهم بها على البشرية، والتبعات التي ينوطها بهم في كل اتجاه. وهنا يستعرض المؤلف أسباب هذا الانحطاط الروحية والمادية، ويصف ما حل بالمسلمين أنفسهم عندما تخلوا عن مبادئ دينهم، ونكصوا عن تبعاتهم، وما نزل بالعالم كله من فقدانه لهذه القيادة الراشدة، ومن انتكاسه إلى الجاهلية الأولى ويرسم هذا الخط عن طريق التأمل الفاحص. ومن خلال هذا الاستعراض، يحس القارئ، بمدى الحاجة البشرية الملحة إلى تغيير القيادة الإنسانية، وردها إلى الهدى الذي انبثق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلية إلى المعرفة، وبمدة الخسارة التي حلت بالبشر جميعاً، لا بالمسلمين وحدهم في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل القريب والبعيد. إلى جانب ذلك فإن الخصيصة البارزة في هذا الكتاب كله هي الفهم العميق لكليات الروح الإسلامية في محيطها الشامل، وهو لهذا لا يعد نموذجاً للبحث الديني والاجتماعي فحسب، بل نموذجاً كذلك للتاريخ كما ينبغي أن يكتب من الزاوية الإسلامية، فهو ينظر إلى الأمور كلها، وللعوامل جميعها، وللقيم على اختلافها فحين يتحدث المؤلف عن رد القيادة العالمية إلى الإسلام فهو يتحدث عن مؤهلات القيادة، فلا ينسى بجوار (الاستعداد الروحي) أن يلح في (الاستعداد الصناعي والحربي) و(التنظيم العلمي الجديد) وأن يتحدث عن (الاستقلال التجاري والمالي) انه الإحساس المتناسق بكل مقومات الحياة البشرية. وبهذا الإحساس المتناسق سار المؤلف في استعراضه التاريخي، وفي توجيهه للأمة الإسلامية سواء.