تقدم دولة المهدي الموعود من خلال ما توصلنا به من نبوءات ومظاهر دولته المنتظرة شريطًا يكاد يكون متكاملًا عن أحوال دولته وسياسته ومشاريعه، تزخر بدلالات التزامية كبرى، وتتمحور حول حقيقة طالما تشوق إليها البشر وشكّلت حلمهم الدفين، بل والمعلن أحيانًا. إنها دولة تلخص حلم البشر في القضاء على كل ألوان الظلم والجور، وتؤسس لدولة العدالة بمعناها الفريد. ذلك لأن مسيرة البشرية الممتدة عبر آلاف السنين أكدت بأن خياراتها السياسية العادلة لم تعد تقوى على مواجهة أشكال المقاومات السلبية التي تعيق سير البشرية لتحقيق العدالة. حتى أن الأمر أصبح يتجه اليوم إلى نوع من ارتضاء النماذج القاصرة التي لا تبلغ بالاجتماع إلى حاق العدالة، بقدر ما تسعى إلى الإقناع والاقتناع بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وبأن العدالة الاجتماعية والإنسانية غاية لا تدرك. وبأن المطلوب هو الرضى بالقدر المتيسر، والإغضاء عن كل الحلول الحالمة والمشاريع الطوباوية التي يتعذر تحقيقها في دنيا البشر. فالظلم والجور غدا معضلة بنيوية، ودورته باتت مأزقًا نسقيًّا. وإن أي حل لا يكون ثوريًّا سوف لن يحل معضلة الإنسان، وليس أي ثورة تقصد هاهنا في المقام؛ بل المقصود قيام ثورة كونية. بهذا المعنى تحديدًا نفهم لماذا عبر الخبير الأميركي ذات مرة عن الخيار الليبرالي بأنه نهاية التاريخ وعن الرجل الليبرالي بأنه خاتمة النوع. وبينما ساد الانطباع كذلك بأن دنيا البشر هي ساحة لتزاحم المصالح والصراع بحيث بتنا نسلم منذ ابن خلدون حتى اليوم بأن الأمر حتى تعلق بأرقى مستويات الديمقراطية لا يعدو مجرد نمط من التغلب السياسي أكثر نعومة من ذي قبل. وبأن العصبية والتغلب هما أساس التسلط في الدولة الحديثة أيضًا. إلا أن البعض لا يكاد يدرك من نموذج دولة الموعود سوى أنها ارتقاء بفكرة المستبد العادل إلى منتهاها. وعليه، تعيّن وضع ما به امتياز دولة الموعود وتحريرها من سلطة الإسقاطات المنهجية والأيديولوجية التي تتيحها النماذج السياسية الراهنة والتاريخية، باعتبار أن دولة المهدي هي في نهاية الأمر ليست نموذجًا تاريخيًّا مستعادًا، بل هي نموذج مستقبلي لم يطبق ولم يكن في مكنة الشروط التاريخية ما يسند هذا الحلم الذي يعبّر عن رشد البشرية وقوة إمكاناتها. إنها بهذا المعنى تلخص كل آمال الأنبياء والرسل والمصلحين عبر التاريخ، إنها لحظة التطبيق الأولى لكبرى القيم الإلهية والإنسانية على الأرض، لذلك كانت وعدًا، ليس للمسلمين فقط، بل هي وعد للبشرية جمعاء منذ آدم حتى يومنا هذا. ما سنبحثه في هذه الورقة يتعلق بما هو محل تميز دولة الموعود وخصائصها، لا سيما إزاء ذلك الشكل الذي توحي به عند النظرة الأولى، نعني المستبد العادل. وأيضًا إبراز ملامح الجدة والمستقبلية والتاريخانية في هذا النموذج الرسالي المشرق. وأيضًا توضيح جانب الخاتمية كأساس تغدو فيه دولة المهدي ضرورة أكثر من كونها ضرورة سياسية، بل ضرورة حضارية كونية، ضرورة يفرضها الاجتماع الإنساني. ليس من حيث إنها خاتمية الرسالة، بل من حيث هي تمامها الذي لا يتقوم إلا بوجود إمام مخلص يحقق ما لم ينجز بعد. لذا كانت تمام النعمة.
اشتراک گذاری
/