نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر

إن الدينامية المعاصرة التي يرتكز إليها تشكيل الفكر السياسي الشيعي، تقوم على أُطُر مرجعية ثلاثة، متداخلة ومتفاوتة في حجم حضورها وتأثيراتها تبعاً لاختلافات الوجهة التي تأخذها النظرية السياسية؛ أولاً: الإطار المرجعي الديني العقائدي الذي تعبر عنه نظرية الإمامة الشيعية بنصوصها ومبادئها مفاهيمها. ثانياً: الإطار الفقهي التاريخي لتطور إشكاليات السلطة. وثالثاً: الإطار الواقعي الراهن بتحولاته الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها، وبتأثيرات الحداثة المعاصرة، مناخات وضرورات وطغياناً مفهومياً. إن صلة الفكر السياسي بهذه الدينمية المثلثة البعد، تفصح عن نفسها بوضوح، وتشيد بناءاتها بالضرورة، بالاستناد إلى بعدين الأوّلين: الديني العقائدي، والفقهي التاريخي، إلا أن الصلة بالبعد الثالث تبدو مضمرة ومخبوءة، ولا تفصح عن نفسها إلا مواربة؛ إذ ليس من شأن الفقه الانصياع لمتغيرات الواقع بمقدار انحكامه لثوابت العقيدة ومحددات الشريعة. وعلى كل حال، فإن هذه المواءمة الصعبة بين الثوابت والمتغيرات، تشكل التحدي الأكبر للفكر السياسي الإسلامي في بنائه للنظرية السياسية. وفي الواقع، إن التباين في بناء النظرية السياسية سيكون ممكناً من الناحية المنهجية، تبعاً لاختلاف المقاربة للبعدين الثاني والثالث، على نحو أساس، نظراً لطبيعتها الاجتهادية المتغيرة. في حين أن البعد الأول الديني العقائدي، يشكل ركيزة مرجعية ثابتة ومشتركة بين مختلف اتجاهات الفكر السياسي الشيعي موضوع المعالجة في هذه الدراسة، وستتم رؤية كيف أن بلوغ الذروة في عملية بناء النظرية السياسية، قد يمتد مفهومياً إلى حيث يطال مبادئ أساسية، فتخضع بدورها لتفاوت اجتهادي حاد، فتقع من حيث المثال، على تسويغ ديني للشورى في نظرية ما، وإغفالٍ لها في نظرية أخرى. وبالنتيجة، فإن تمفصلاً مثيراً سيرتسم بوصفه حاكماً على بنية الفكر السياسي الشيعي، إذ أن إشكالية الفقيه-الأمة، وهي الإشكالية التي حلّت محل إشكالية الفقيه-السلطان تاريخياً، ستتمفصل على إشكالية التأصيل-التحديث في عملية بناء السلطة. وسيمثل دور الفقيه بوصفه رمزاً للتأصيل، فيما سيمثل دور الأمة بوصفه رمزاً للتحديث. وفي هذه الدراسة فإن ما يسمى فكراً سياسياً شيعياً معاصراً، هو ما ينطوي على إسهامات فقهية وفكرية في آن، إذ أنهما لا ينفكان بل يتلازمان، وفي غمرة تنامي هذا الفكر لا يعود كافياً الاقتصار على الفقه وحده، رغم أن القيمة الحاسمة في تأسيس النظرية السياسية تبقى للفقه بما يتجاوز الفكر أضعافاً. وعليه، فإن الفكر يؤدي دوراً مؤازراً للرؤية الفقهية ومنظراً لها في قلب منظومتها وبالاستناد لها. أما المقصود بالمعاصر، فيتعلق زمنياً بالعقود الأخيرة من النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وصولاً إلى الأيام الراهنة. (النصف الثاني من القرن العشرين). وعلى هذا فقد اختار المؤلف من الفكر السياسي الشيعي المعاصر، نماذج ثلاثة: ولاية الفقيه عند “الإمام الخميني”، ولاية الأمة على نفسها عند “العلامة محمد مهدي شمس الدين”، وولاية الفقيه على قاعدة الشورى عند “العلاّمة محمد باقر الصدر”. وكان لهذا الاختيار لدى المؤلف ما يسوغه؛ ذلك أن الثلاثة فقهاء، وروّاداً في الفكر الإسلامي، ومن أقطار عدة (لبنان، إيران، العراق) وتمثل أطروحاتهم، على ما بينها من تفاوت، الاتجاهات النظرية الأساسية في مجال الفكر السياسي الشيعي المعاصر. وأما الاجتهادات الأخرى في هذا المجال، فيغلب الظن على أنها لا بد أن تنضوي من الناحية النظرية في خانة التماثل، من ناحية المرتكزات الأساسية، مع أحد هذه الاتجاهات الثلاثة موضوع المعالجة.


نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر