في ختام سورة يوسف نقرأ هذه الآية الكريمة ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ (يوسف:111). وهي تضعنا قبالة التعامل مع التاريخ في المنظور القرآني يستهدف البحث عن العبرة، أي الجوهر والمغزى، وهو خطاب موجه لذوي البصيرة القادرين على سبر هذا المغزى، والإفادة منه في واقع حياتهم والتخطيط لمستقبلهم، وليس لذوي المصالح القريبة والتحزبات والأهواء. وهو –أيضا– معطى يحمل مصداقيته المنبثقة عن علم الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي وسع كل شئ علما. فهو –إذن– ليس رجما بالغيب، ولا أهواء وظنونا، كما هو الحال في العديد من الأعمال التاريخية الوضعية. فإذا مضينا لتدارس القرآن الكريم كله، فإننا سنجد كتاب الله يخصص مساحات واسعة، قد تزيد عن نصف القرآن للخبر المتحقق في الماضي، والسنن التي تحكمه، أي للتاريخ وقوانين الحركة التاريخية. إن قصص الأنبياء والشهداء والقديسين، أخبار الأمم والشعوب والجماعات والقرى... حلقات الصراع المتطاول بين الحق والباطل والهدى والضلال... كلها في نهاية عروض تاريخية تغذي هذا الفرع المعرفي بالمزيد من المفردات والإضاءات. والتعامل القرآني مع التاريخ بأخذ صيغاً مختلفة تتدرج بين العرض المباشر والسرد القصصي لتجارب عدد من الجماعات البشرية، وبين استخلاص بمتاز بالتركيز والكثافة للسنن التاريخية التي تحكم حركة الإنسان في الزمن والمكان أي في التاريخ. فإذا ما أضفنا إلى هذا وذاك تلك الآيات والمقاطع القرآنية التي يحدثنا عنها المفسرون في موضوع أسباب الترول، والتي جاءت في أعقاب عدد مزدحم من أحداث السيرة لكي تعلق وتعقب وتفند وتلامس وتبني وتوجه وتصوغ، استطعنا أن نتبين أكثر فأكثر أبعاد المساحات الكبيرة التي منحها القرآن الكريم للتاريخ. إن جانبا كبيرا من سور القرآن الكريم وآياته البينات ينصب على إخطار البشرية بالنذير الإلهي، وينبثق عن رؤية وتفحص التاريخ، وبمقدور المرء أن يلحظ – عبر تعامله مع كتاب الله – كيف تتهاوى الجدران بين الماضي والحاضر والمستقبل، كيف يلتقي زمن الأرض وزمن السماء، قصة الخليفة ويوم الحساب، عند اللحظة الراهنة، حيث تصير حركة التاريخ، التي يتسع لها الكون، حركة متوحدة لا ينفصل فيها زمن عن زمن، ولا مكان عن مكان، وحيث تغدو السنن والنواميس، والمفاتيح الضرورية التي لا بد منها لفهم تدفق الحياة والوجود، وتشكل المصائر والمقدرات. ولنا أن نتصور القيمة البالغة التي أولاها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم[1] لأحداث الماضي ذات الدلالة، أي للتاريخ. يعتمد القرآن الكريم في معطياته عن الوحدة ...