إن مؤتمر باندونج كان قطعاً في نظر المختصين بالسياسة العالمية، أخطر ظاهرة برزت (في العالم الثالث) بعد الحرب العالمية الثانية، الظاهرة التي كانت تحمل في طياتها وعياً ممنهجاً لتجاوز ولتحدي كتل الشعوب المتحضرة. وفي هذا الكتاب ومن وحي وقائع ومعطيات هذا المؤتمر الذي وحد هموم وتطلعات وإمكانيات الشعوب الأفريقية الآسيوية يحاول المفكر مالك بن نبي أن يعطي للشباب المسلم العربي صورة صحيحة، بقدر الإمكان، عن الخطوط العريضة للتطور في العالم تحت تأثير العامل التكنولوجي نحو العالمية، وذلك بهدف إيقاظ الوعي لدى هذا الجيل لتكون لديه يقظة فكرية تتيح له تغيير واقعه من خلال ذاته. وقد سلط المفكر في هذه المقالات الضوء على قضايا ثلاث: الرجل الأفرسيوي في عالم الكبار، بناء الفكرة الأفرسيوية، رسالة فكرة الأفرسيوية. تحلّى مالك بن نبي بثقافة منهجية، استطاع بواسطتها أن يضع يده على أهم قضايا العالم المتخلف.. اهتم بها منذ شبابه، ودرسها تحت عنوان (مشكلات الحضارة) فكانت هذه السلسلة التي بدأها بباريس ثم تتابعت حلقاتها في مصر فالجزائر. لقد أمعن مالك بن نبي في الحفر حول مشكلات التخلف المزمنة، متجاوزاً الظواهر الطافية على السطوح إلى الجذور المتغلغلة في الأعماق، وباحثاً عن السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من الكلالة والعجز إلى القدرة والفعالية.. وهكذا تجاوز مشكلة الاستعمار ليعالج مشكلة (القابلية للاستعمار)، ومشكلة التكديس إلى البناء، والحق إلى الواجب، وعالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار؛ مؤكداً (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وأن مفاتيح الحل عند الذات لا عند الآخر. مات بن نبي عام 1973، لكن أفكاره ما زالت حية تهيب بالأمة أن تتلقفها لتنهض بها من كبوتها المزمنة، وتدخل من جديد في مضمار الحضارة.